الأمن في القرآن والسيرة
يقول الله تعالى: {ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون، ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار}، والمراد بالكلمة الطيبة: شهادة "أن لا إله إلا الله"، وقيل كل كلمة حسنة. والمراد بالكلمة الخبيثة: كلمة الكفر أو الدعوة إليه أو الكذب، أو كل كلمة لا يرضاها الله تعالى.
وإفشاء الأسرار التي تعود على الأفراد والأمم بالأضرار من الكلام الذي لا يرضاه الله تعالى، وكذلك كل كلام فيه سعي بالفساد مندرج تحت الكلمة الخبيثة.
- كتمان الأسرار من الحذر والفطنة:
وينبه الإسلام إلى اليقظة والحذر كما في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم}، وكما في قول الرسول عليه الصلاة والسلام: ( المؤمن كيِّس فَطِن).
- الصمت:
1) فلقد كان من أسباب نجاح الدعوة الإسلامية أن رسول الله صلوات الله وسلامه عليه بدأ سرا.
ولما شاهد علي رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم يصلي هو وخديجة رضي الله عنها، قال: (يا محمد ما هذا؟!) قال: (دين الله الذي اصطفى لنفسه وبعث به رسله، فأدعوك إلى الله وحده لا شريك له وإلى عبادته، وأن تكفر باللات والعزى)، فقال علي: (هذا أمر لم أسمع به من قبل اليوم، فلست بقاض أمرا حتى أحدث به أبا طالب - أي أباه-، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم كره أن يفشي سر الدين قبل أن يستعلن أمره، فقال له: (يا علي إذا لم تسلم؛ فاكتم)، فامتثل علي للأمر، حتى جاء الرسول صلى الله عليه وسلم في الصباح التالي وأعلن إسلامه وكتم ذلك عن أبيه، ولم يظهره.
2) وقد ابتكر الرسول صلى الله عليه وسلم "الرسالة المكتومة"، فقد بعث صلوات الله وسلامه عليه سَرِيَّة من المهاجرين، قوامها اثنا عشر رجلا بقيادة عبد الله بن جحش الأسدي في مهمة استطلاعية في شهر رجب 2هـ، وسلمه رسالة "مكتومة" تحتوي على تفاصيل المهمة من حيث الهدف منها ومكانها وغير ذلك من التعليمات، وأمره ألا يفتحها إلا بعد أن يسير يومين.
لقد زخرت سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتطوير المستمر للأساليب الأمنية حسب اشتداد المحنة أو الظروف من حوله، فكلّما اشتدت الظروف ضراوةً، ارتفعت درجة الاهتمام الأمنيّ، التي تستوجب اتخاذ الإجراءات الحازمة للتعامل الأمثل معها.
السيرة النبويّة المطهّرة، وأبعادها الأمنية:
أولاً: المرحلة المكّية:
1) المرحلة السّرية للدعوة: وتميزت بسرّية الدعوة، وسرّية التنظيم.. أي أنّ الدعوة إلى الدين الجديد "الإسلام" كانت تأخذ طابعاً سرّياً، وأنّ توزيع المهمات، وترتيب الأعمال والنشاطات، و.. كان سرّياً أيضاً لا يطّلع عليه أحد إلا المعنيّون بذلك، والكلّ يتحرك نحو الهدف تحت إمرة الرجل الأول، الذي هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2) المرحلة العلنيّة للدّعوة: وقد تميّزت هذه المرحلة بعلنيّة الدّعوة، لكن ببقاء التّنظيم سرّياً! فالدّعوة إلى الله بين النّاس والقبائل والأهل والعشيرة كان علنيّاً. لكن "على الرّغم من ذلك، فإنّ المهمات والاتصالات بين أبناء الدّعوة، وأماكن التّجمع واللقاءات الثنائية، والخطط التكتيكيّة، واختيار الأفراد الذين سيُدْعَوْنَ للدّخول في الإسلام.. كلّ ذلك كان سرّياً لا يعرفه أحدٌ من النّاس إلا أصحاب العلاقة من أبناء الدّعوة.
ثانياً: مرحلة الهجرة:
وهي مرحلةٌ قصيرةٌ تميّزت بالتّخطيط الأمنيّ النّبويّ البارع، فقد بدأت إرهاصات هذه المرحلة بالإعداد لها في بيعتيّ العقبة "الأولى والثانية"، ثم امتدّت إلى هجرة أصحابه صلّى الله عليه وسلّم، وانتهت بهجرته "عليه الصّلاة والسّلام" مع صاحبه الحبيب أبي بكرٍ الصِّدّيق رضوان الله عليه.
ثالثاً: المرحلة المدنية:
وهي مرحلة تأسيس الدّولة القويّة لتكون المقرّ القويّ المتين للانطلاق والانتشار، وامتدّت هذه المرحلة حتى وفاته صلّى الله عليه وسلّم، أي ما يقرب من عشر سنواتٍ من التوسّع والانتصارات. وإننا نقسم هذه المرحلة إلى ثلاث مراحل:
1) مرحلة البناء الدّاخليّ المتين: باتخاذ الإجراءات والترتيبات الكفيلة بتحقيق الأمن من اليهود أولاً، والأمن من المنافقين المندسّين في الصّفوف المسلمة ثانياً.
أ) 2) مرحلة الحرب الدّفاعيّة: وتمتدّ حتى نهاية غزوة الخندق، حين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الآنَ نغزوهُم ولا يغزوننا، نحنُ نسيرُ إليهم) [رواه البخاري].
3) مرحلة الحرب الهجوميّة: التي امتدّت حتّى وفاته عليه الصّلاة والسّلام، وتميّزت بما يلي:
أ) الصّراع مع المشركين في عُقر دارهم: الحديبية، عمرة القضاء، فتح مكّة، غزوة حنين.
ب) الصّراع مع اليهود وتصفية آخر معاقلهم: غزوة خيبر.
ت) الصّراع مع النّصارى: في مؤتة، وتبوك.
] الحذر مطلوب في السِّلْم... وفي الحرب أَوْلى وأهمّ:
(.. وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَة) (النساء: من الآية 102).
(.. وَخُذُوا حِذْرَكُمْ)، فإن فعلتم: (.. إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً) (النساء: 102)، وقد يكون العذاب لهم على أيديكم، بنصر الله لكم عليهم في الحياة الدنيا، والتمكين لكم في الأرض!
التثبّت من صحة المعلومة:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (الحجرات:6).
إنه التحرّي الصادق الأمين، للتثبّت من المعلومة، قبل بناء الموقف عليها واتخاذ القرار المناسب بشأنها، كي لا يقع الندم، والندم هنا هو نتيجة من نتائج ظلم الناس. وإيقاعُ الظلم بالناس هو نتيجة لتصرّفٍ أرعن متسرّع، لا يدع المجال للتثبّت من المعلومة والتحقق من إيمان ناقلها وصدقه وتقواه وولائه. فهل نتعلّم ونتّعظ ونفعل وننفّذ أمر الله عز وجل؟!
الحذر من إذاعة الأخبار وترديد الإشاعات:
(وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً) (النساء:83). فالحلّ هو: ردّ الأمور إلى أولي الأمر القادرين على تحليلها واستنباط خفاياها ومراميها، ثم اتخاذ القرار المناسب بشأنها، وبذلك يبقى الصف الإسلاميّ آمناً مطمئناً، محمياً بعقول أبنائه وسواعدهم وإيمانهم!
أصحاب الكهف: عِظاتٌ أمنيةٌ .. وقصةٌ تتكرر كل يوم:
(.. إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً) (الكهف: من الآية 13).
إنهم حملة اللواء إذاً، لواء الإيمان، في وجه الظلم والطغيان الصادر عن أولئك الجبارين الذين حكموا بغير ما أنزل الله، لكن أولئك الفتية الصادقين ثاروا على الظلم والقهر، واستطاعوا بحنكتهم وعقولهم النيّرة أن يتدبّروا أمر حماية أنفسهم، لحماية دعوتهم وإيمانهم، فماذا فعلوا؟!
(إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً) (الكهف:10) .. إنّه اللجوء إلى المكان (الآمن)، وقبل ذلك، الإيمان الصادق بالله عز وجل، وتسخير النفس في سبيل دعوته، فبعد اتخاذ كل أسباب (الحماية والأمن)، واستكمال شروط التوكّل على الله سبحانه وتعالى.. لجأوا إليه: (ربّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رحمةً، وهيّء لنا مِنْ أمرِنا رَشَداً) .
بعد كل ذلك .. بماذا قابلهم ربهم العزيز القدير؟!..
(وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ ..) (الكهف: من الآية 14).. أي قوّيناهم بالصبر على هجر الأهل والأوطان، لأنهم فعلوا ما عليهم فعله ضمن حدود القدرة البشرية، فأمددناهم بالقدرة الإلهية، حمايةً، ورعايةً، وأمناً، ورشداً، ونصرة!..
هذه الخطة (الأمنية) لم تأتِ من فراغ، إنما كانت ثمرة بحثٍ وحوارٍ بين الفتية، الذين بذلوا أنفسهم في سبيل الله .. إلى أن توصّلوا إلى الحل الأمثل، والقرار الحكيم:
(وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً) (الكهف:16). ولأنهم كانوا مع الله، ويعيشون لدعوتهم، تيقّنوا أن الله عز وجل هو الذي سيحفظهم، ويُعمي عنهم أعين الجبارين وأنصارهم: (.. ينْشُر لكُم ربُّكُم من رحمتِهِ، ويهيّء لكُم من أمرِكُم مِرْفَقاً).
فالله وحده (أولاً وآخراً) هو الذي يسهّل الأمور، وهو الذي ييسّرها، وهو الذي يحمي ويصون، فَبِقَدَرِهِ وقُدْرَتِهِ يسير كل شيءٍ في هذا الكون!..
ونام الفتية في مأواهم الجديد (الكهف) مئات السنين:
(فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً) (الكهف:11).
ثم أيقظهم الله جل وعلا.. وبعد أن أيقظهم، هل تغيّرت حالة (الحذر) في نفوسهم بعد مضي كل تلكم السنين الطويلة؟!..
(وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ ..) .. (.. قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً) (الكهف: من الآية 19).
إنّه (الحذر)، و(الحيطة)، و اتخاذ أسباب (الحماية) بكل حزمٍ وصرامة، مع الاستمرار والعمل الدؤوب على تحقيق (أمن) الدعوة من كل مكروه، بذكاءٍ ودهاءٍ لا بد منهما لكل من يريد أن يسير في ركب الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى!.. وقد جاءت الكلمات الشريفة في غاية الدقة والدلالة المباشرة، على الحالة الأمنية التي لا تقبل التهاون أو الاسترخاء:
(.. وليتلطّف)!.. أي ليدقق النظر حتى لا يُعرَف وتُعرَف شخصيته! ثم: (.. ولا يُشعِرَنَّ بكُم أحداً)!.. أي لا يدع أحداً من الناس كائناً من كان، أن يعلم بمكانكم، فيكشفه، ثم يكشفكم، ومن بعد ذلك الخطر الأكيد!.. وما هو هذا الخطر الأكيد؟!..
(إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ ..)!.. (الكهف: من الآية 20) .. نعم هذه هي حال الطواغيت الجبارين في كل زمانٍ ومكان .. فإن اطّلعوا عليكم، وعلموا بمكانكم وإيمانكم، وبدعوتكم .. فلا سبيل عندهم، ولا وسيلة لديهم، إلا القتل: (يرجُموكُم)!.. أو .. أو ماذا؟!
(.. أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً)!.. (الكهف: من الآية 20) .. إنه الحل الآخر المرّ، وهو أن يجبروكم على العودة إلى دينهم وكفرهم، بعد كل تلك السنين من الصبر والجهاد والتضحية والمعاناة في سبيل الله عز وجل، وفي سبيل الدعوة التي آمنتم بها وأكرمكم الله بحمل لوائها، وبذلك كله ستخسرون الآخرة، بعد أن خسرتم الدنيا!
يقول الله تعالى: {ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون، ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار}، والمراد بالكلمة الطيبة: شهادة "أن لا إله إلا الله"، وقيل كل كلمة حسنة. والمراد بالكلمة الخبيثة: كلمة الكفر أو الدعوة إليه أو الكذب، أو كل كلمة لا يرضاها الله تعالى.
وإفشاء الأسرار التي تعود على الأفراد والأمم بالأضرار من الكلام الذي لا يرضاه الله تعالى، وكذلك كل كلام فيه سعي بالفساد مندرج تحت الكلمة الخبيثة.
- كتمان الأسرار من الحذر والفطنة:
وينبه الإسلام إلى اليقظة والحذر كما في قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم}، وكما في قول الرسول عليه الصلاة والسلام: ( المؤمن كيِّس فَطِن).
- الصمت:
1) فلقد كان من أسباب نجاح الدعوة الإسلامية أن رسول الله صلوات الله وسلامه عليه بدأ سرا.
ولما شاهد علي رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم يصلي هو وخديجة رضي الله عنها، قال: (يا محمد ما هذا؟!) قال: (دين الله الذي اصطفى لنفسه وبعث به رسله، فأدعوك إلى الله وحده لا شريك له وإلى عبادته، وأن تكفر باللات والعزى)، فقال علي: (هذا أمر لم أسمع به من قبل اليوم، فلست بقاض أمرا حتى أحدث به أبا طالب - أي أباه-، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم كره أن يفشي سر الدين قبل أن يستعلن أمره، فقال له: (يا علي إذا لم تسلم؛ فاكتم)، فامتثل علي للأمر، حتى جاء الرسول صلى الله عليه وسلم في الصباح التالي وأعلن إسلامه وكتم ذلك عن أبيه، ولم يظهره.
2) وقد ابتكر الرسول صلى الله عليه وسلم "الرسالة المكتومة"، فقد بعث صلوات الله وسلامه عليه سَرِيَّة من المهاجرين، قوامها اثنا عشر رجلا بقيادة عبد الله بن جحش الأسدي في مهمة استطلاعية في شهر رجب 2هـ، وسلمه رسالة "مكتومة" تحتوي على تفاصيل المهمة من حيث الهدف منها ومكانها وغير ذلك من التعليمات، وأمره ألا يفتحها إلا بعد أن يسير يومين.
لقد زخرت سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتطوير المستمر للأساليب الأمنية حسب اشتداد المحنة أو الظروف من حوله، فكلّما اشتدت الظروف ضراوةً، ارتفعت درجة الاهتمام الأمنيّ، التي تستوجب اتخاذ الإجراءات الحازمة للتعامل الأمثل معها.
السيرة النبويّة المطهّرة، وأبعادها الأمنية:
أولاً: المرحلة المكّية:
1) المرحلة السّرية للدعوة: وتميزت بسرّية الدعوة، وسرّية التنظيم.. أي أنّ الدعوة إلى الدين الجديد "الإسلام" كانت تأخذ طابعاً سرّياً، وأنّ توزيع المهمات، وترتيب الأعمال والنشاطات، و.. كان سرّياً أيضاً لا يطّلع عليه أحد إلا المعنيّون بذلك، والكلّ يتحرك نحو الهدف تحت إمرة الرجل الأول، الذي هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2) المرحلة العلنيّة للدّعوة: وقد تميّزت هذه المرحلة بعلنيّة الدّعوة، لكن ببقاء التّنظيم سرّياً! فالدّعوة إلى الله بين النّاس والقبائل والأهل والعشيرة كان علنيّاً. لكن "على الرّغم من ذلك، فإنّ المهمات والاتصالات بين أبناء الدّعوة، وأماكن التّجمع واللقاءات الثنائية، والخطط التكتيكيّة، واختيار الأفراد الذين سيُدْعَوْنَ للدّخول في الإسلام.. كلّ ذلك كان سرّياً لا يعرفه أحدٌ من النّاس إلا أصحاب العلاقة من أبناء الدّعوة.
ثانياً: مرحلة الهجرة:
وهي مرحلةٌ قصيرةٌ تميّزت بالتّخطيط الأمنيّ النّبويّ البارع، فقد بدأت إرهاصات هذه المرحلة بالإعداد لها في بيعتيّ العقبة "الأولى والثانية"، ثم امتدّت إلى هجرة أصحابه صلّى الله عليه وسلّم، وانتهت بهجرته "عليه الصّلاة والسّلام" مع صاحبه الحبيب أبي بكرٍ الصِّدّيق رضوان الله عليه.
ثالثاً: المرحلة المدنية:
وهي مرحلة تأسيس الدّولة القويّة لتكون المقرّ القويّ المتين للانطلاق والانتشار، وامتدّت هذه المرحلة حتى وفاته صلّى الله عليه وسلّم، أي ما يقرب من عشر سنواتٍ من التوسّع والانتصارات. وإننا نقسم هذه المرحلة إلى ثلاث مراحل:
1) مرحلة البناء الدّاخليّ المتين: باتخاذ الإجراءات والترتيبات الكفيلة بتحقيق الأمن من اليهود أولاً، والأمن من المنافقين المندسّين في الصّفوف المسلمة ثانياً.
أ) 2) مرحلة الحرب الدّفاعيّة: وتمتدّ حتى نهاية غزوة الخندق، حين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الآنَ نغزوهُم ولا يغزوننا، نحنُ نسيرُ إليهم) [رواه البخاري].
3) مرحلة الحرب الهجوميّة: التي امتدّت حتّى وفاته عليه الصّلاة والسّلام، وتميّزت بما يلي:
أ) الصّراع مع المشركين في عُقر دارهم: الحديبية، عمرة القضاء، فتح مكّة، غزوة حنين.
ب) الصّراع مع اليهود وتصفية آخر معاقلهم: غزوة خيبر.
ت) الصّراع مع النّصارى: في مؤتة، وتبوك.
] الحذر مطلوب في السِّلْم... وفي الحرب أَوْلى وأهمّ:
(.. وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَة) (النساء: من الآية 102).
(.. وَخُذُوا حِذْرَكُمْ)، فإن فعلتم: (.. إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُهِيناً) (النساء: 102)، وقد يكون العذاب لهم على أيديكم، بنصر الله لكم عليهم في الحياة الدنيا، والتمكين لكم في الأرض!
التثبّت من صحة المعلومة:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) (الحجرات:6).
إنه التحرّي الصادق الأمين، للتثبّت من المعلومة، قبل بناء الموقف عليها واتخاذ القرار المناسب بشأنها، كي لا يقع الندم، والندم هنا هو نتيجة من نتائج ظلم الناس. وإيقاعُ الظلم بالناس هو نتيجة لتصرّفٍ أرعن متسرّع، لا يدع المجال للتثبّت من المعلومة والتحقق من إيمان ناقلها وصدقه وتقواه وولائه. فهل نتعلّم ونتّعظ ونفعل وننفّذ أمر الله عز وجل؟!
الحذر من إذاعة الأخبار وترديد الإشاعات:
(وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً) (النساء:83). فالحلّ هو: ردّ الأمور إلى أولي الأمر القادرين على تحليلها واستنباط خفاياها ومراميها، ثم اتخاذ القرار المناسب بشأنها، وبذلك يبقى الصف الإسلاميّ آمناً مطمئناً، محمياً بعقول أبنائه وسواعدهم وإيمانهم!
أصحاب الكهف: عِظاتٌ أمنيةٌ .. وقصةٌ تتكرر كل يوم:
(.. إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدىً) (الكهف: من الآية 13).
إنهم حملة اللواء إذاً، لواء الإيمان، في وجه الظلم والطغيان الصادر عن أولئك الجبارين الذين حكموا بغير ما أنزل الله، لكن أولئك الفتية الصادقين ثاروا على الظلم والقهر، واستطاعوا بحنكتهم وعقولهم النيّرة أن يتدبّروا أمر حماية أنفسهم، لحماية دعوتهم وإيمانهم، فماذا فعلوا؟!
(إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً) (الكهف:10) .. إنّه اللجوء إلى المكان (الآمن)، وقبل ذلك، الإيمان الصادق بالله عز وجل، وتسخير النفس في سبيل دعوته، فبعد اتخاذ كل أسباب (الحماية والأمن)، واستكمال شروط التوكّل على الله سبحانه وتعالى.. لجأوا إليه: (ربّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رحمةً، وهيّء لنا مِنْ أمرِنا رَشَداً) .
بعد كل ذلك .. بماذا قابلهم ربهم العزيز القدير؟!..
(وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ ..) (الكهف: من الآية 14).. أي قوّيناهم بالصبر على هجر الأهل والأوطان، لأنهم فعلوا ما عليهم فعله ضمن حدود القدرة البشرية، فأمددناهم بالقدرة الإلهية، حمايةً، ورعايةً، وأمناً، ورشداً، ونصرة!..
هذه الخطة (الأمنية) لم تأتِ من فراغ، إنما كانت ثمرة بحثٍ وحوارٍ بين الفتية، الذين بذلوا أنفسهم في سبيل الله .. إلى أن توصّلوا إلى الحل الأمثل، والقرار الحكيم:
(وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً) (الكهف:16). ولأنهم كانوا مع الله، ويعيشون لدعوتهم، تيقّنوا أن الله عز وجل هو الذي سيحفظهم، ويُعمي عنهم أعين الجبارين وأنصارهم: (.. ينْشُر لكُم ربُّكُم من رحمتِهِ، ويهيّء لكُم من أمرِكُم مِرْفَقاً).
فالله وحده (أولاً وآخراً) هو الذي يسهّل الأمور، وهو الذي ييسّرها، وهو الذي يحمي ويصون، فَبِقَدَرِهِ وقُدْرَتِهِ يسير كل شيءٍ في هذا الكون!..
ونام الفتية في مأواهم الجديد (الكهف) مئات السنين:
(فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً) (الكهف:11).
ثم أيقظهم الله جل وعلا.. وبعد أن أيقظهم، هل تغيّرت حالة (الحذر) في نفوسهم بعد مضي كل تلكم السنين الطويلة؟!..
(وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ ..) .. (.. قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً) (الكهف: من الآية 19).
إنّه (الحذر)، و(الحيطة)، و اتخاذ أسباب (الحماية) بكل حزمٍ وصرامة، مع الاستمرار والعمل الدؤوب على تحقيق (أمن) الدعوة من كل مكروه، بذكاءٍ ودهاءٍ لا بد منهما لكل من يريد أن يسير في ركب الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى!.. وقد جاءت الكلمات الشريفة في غاية الدقة والدلالة المباشرة، على الحالة الأمنية التي لا تقبل التهاون أو الاسترخاء:
(.. وليتلطّف)!.. أي ليدقق النظر حتى لا يُعرَف وتُعرَف شخصيته! ثم: (.. ولا يُشعِرَنَّ بكُم أحداً)!.. أي لا يدع أحداً من الناس كائناً من كان، أن يعلم بمكانكم، فيكشفه، ثم يكشفكم، ومن بعد ذلك الخطر الأكيد!.. وما هو هذا الخطر الأكيد؟!..
(إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ ..)!.. (الكهف: من الآية 20) .. نعم هذه هي حال الطواغيت الجبارين في كل زمانٍ ومكان .. فإن اطّلعوا عليكم، وعلموا بمكانكم وإيمانكم، وبدعوتكم .. فلا سبيل عندهم، ولا وسيلة لديهم، إلا القتل: (يرجُموكُم)!.. أو .. أو ماذا؟!
(.. أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً)!.. (الكهف: من الآية 20) .. إنه الحل الآخر المرّ، وهو أن يجبروكم على العودة إلى دينهم وكفرهم، بعد كل تلك السنين من الصبر والجهاد والتضحية والمعاناة في سبيل الله عز وجل، وفي سبيل الدعوة التي آمنتم بها وأكرمكم الله بحمل لوائها، وبذلك كله ستخسرون الآخرة، بعد أن خسرتم الدنيا!
السبت مارس 31, 2012 9:36 pm من طرف بلعباس البوسعادي
» قناة وصال الفارسية لدعوة شيعة ايران
السبت مارس 31, 2012 9:11 pm من طرف بلعباس البوسعادي
» السلام عليكم هل من مرحب
السبت مارس 31, 2012 9:05 pm من طرف بلعباس البوسعادي
» عرش أولاد عزوز ببوسعادة
السبت مارس 31, 2012 8:56 pm من طرف بلعباس البوسعادي
» هذه هي بوسعادة ... بوابة الصحراء الجزائرية
السبت مارس 31, 2012 8:46 pm من طرف بلعباس البوسعادي
» { من أقوال السلف المأثورة }
الثلاثاء أكتوبر 04, 2011 4:23 pm من طرف عزوز أبو اميمة
» عشرة أشياء ضائعة لا ينتفع بها
الثلاثاء أكتوبر 04, 2011 4:20 pm من طرف عزوز أبو اميمة
» الطريق واحد، للشيخ: عبد المالك رمضاني الجزائري
الثلاثاء أكتوبر 04, 2011 4:19 pm من طرف عزوز أبو اميمة
» جزء قد سمع ، تبارك ، عم "بالأَمَازِيغِيَّة"
الثلاثاء أكتوبر 04, 2011 4:18 pm من طرف عزوز أبو اميمة